فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: وفاكهة متخيرة مرضية، والتخير الاختيار.
{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} روى الترمذي عن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الكوثر؟ قال: «ذاك نهر أعطانيه الله تعالى يعني في الجنة أشدّ بياضًا من اللبن، أحلى من العسل فيه طير أعناقها كأعناق الجزُر». قال عمر: إن هذه لناعِمةٌ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَكَلَتُها أحسنُ منها» قال: حديث حسن.
وخرّجه الثعلبي من حديث أبي الدرداء أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة طيرًا مثل أعناق البُخْت تصطفّ على يد وليّ الله فيقول أحدها يا وليّ اللَّهِ رَعيتُ في مُرُوج تحت العرش وشربت من عيون التَّسنيم فكُلْ منِّي فلا يزلن يفتخرن بين يديه حتى يخطر على قلبه أكل أحدها فتخرّ بين يديه على ألوان مختلفة فيأكل منها ما أراد فإذا شبع تجمع عظام الطائر فطار يرعى في الجنة حيث شاء. قال عمر: يا نبيّ الله إنها لناعِمة. فقال: {آكلُها أَنْعمُ منها}». وروي عن أبي سعيد الخدري أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة لطيرًا في الطائر منها سبعون ألف ريشة فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة ثم ينتفض فيخرج من كل ريشة لون طعام أبيض من الثلج وأبرد وألين من الزّبد وأعذب من الشهد ليس فيه لون يشبه صاحبه فيأكل منه ما أراد ثم يذهب فيطير».
قوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ} قرئ بالرفع والنصب والجر؛ فمن جر وهو حمزة والكسائي وغيرهما جاز أن يكون معطوفًا على {بِأَكْوَابٍ} وهو محمول على المعنى؛ لأن المعنى يتنعمون بأكواب وفاكهة ولحم وحُور؛ قاله الزجاج.
وجاز أن يكون معطوفًا على {جَنَّاتِ} أي هم في {جَنَّاتِ النَّعِيمِ} وفي حور على تقدير حذف المضاف؛ كأنه قال: وفي معاشرة حور.
الفراء: الجر على الإتباع في اللفظ وإن اختلفا في المعنى؛ لأن الحور لا يطاف بهن؛ قال الشاعر:
إذا ما الغانِياتُ بَرَزْنَ يومًا ** وزَجَّجْنَ الحَواجِبَ والْعُيونَا

والعين لا تزجج وإنما تكحل.
وقال آخر:
ورأيتُ زَوْجَكِ في الوغَىَ ** مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحَا

وقال قُطْرب: هو معطوف على الأكواب والأباريق من غير حمل على المعنى.
قال: ولا ينكر أن يطاف عليهم بالحور ويكون لهم في ذلك لذة.
ومن نصب وهو الأشهب العقيلي والنّخعي وعيسى بن عمر الثّقَفي وكذلك هو في مصحف أُبَيّ، فهو على تقدير إضمار فعل؛ كأنه قال: ويزوّجون حُورًا عِينًا.
والحمل في النصب على المعنى أيضًا حسن؛ لأن معنى يطاف عليهم به يُعطَونه.
ومن رفع وهم الجمهور وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم فعلى معنى وعندهم حور عين؛ لأنه لا يطاف عليهم بالحور.
وقال الكسائي: ومن قال: {وَحُورٌ عِينٌ} بالرفع وعلّل بأنه لا يطاف بهنّ يلزمه ذلك في فاكهة ولحم؛ لأن ذلك لا يطاف به وليس يطاف إلا بالخمر وحدها.
قال الأخفش: يجوز أن يكون محمولًا على المعنى؛ لأن المعنى لهم أكواب ولهم حور عين.
وجاز أن يكون معطوفًا على {ثُلَّةٌ} و{وَثُلَّةٌ} ابتداء وخبره {على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} وكذلك {وَحُورٌ عِينٌ} وابتدأ بالنكرة لتخصيصها بالصفة.
{كَأَمْثَالِ} أي مثل أمثال {اللؤلؤ المكنون} أي الذي لم تمسه الأيدي ولم يقع عليه الغبار فهو أشدّ ما يكون صفاء وتلألؤًا؛ أي هنّ في تشاكل أجسادهن في الحسن من جميع جوانبهن كما قال الشاعر:
كأَنَّمَا خُلِقَتْ في قِشْرِ لُؤْلُؤةٍ ** فَكُلُّ أَكْنَافِها وَجْهٌ لِمِرْصادِ

{جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي ثوابًا ونصْبُه على المفعول له.
ويجوز أن يكون على المصدر؛ لأن معنى {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} يجازون.
وقد مضى الكلام في الحور العين في {والطور} وغيرها.
وقال أنس: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «خلق الله الحور العين من الزعفران». وقال خالد بن الوليد: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرجل من أهل الجنة ليمسك التفاحة من تفاح الجنة فتنفلق في يده فتخرج منها حوراء لو نظرت للشمس لأخجلت الشمس من حسنها من غير أن ينقص من التفاحة». فقال له رجل: يا أبا سليمان إن هذا لعجبٌ ولا ينقص من التفاحة؟ قال: نعم كالسِّراج الذي يوقد منه سِراج آخر وسُرج ولا ينقص، والله على ما يشاء قدير.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: خلق الله الحور العين من أصابع رجليها إلى ركبتيها من الزعفران، ومن ركبتيها إلى ثدييها من المسك الأذفر، ومن ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب، ومن عنقها إلى رأسها من الكافور الأبيض، عليها سبعون ألف حُلَّة مثل شقائق النعمان، إذا أقبلت يتلألأ وجهها نورًا ساطعًا كما تتلألأ الشمس لأهل الدنيا، وإذا أدبرت يرى كبدها من رقّة ثيابها وجلدها، في رأسها سبعون ألف ذؤابة من المسك الأذفر، لكل ذؤابة منها وصيفة ترفع ذيلها وهي تنادي: هذا ثواب الأولياء {جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
قوله تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا} قال ابن عباس: باطلًا ولا كذبًا.
واللغو ما يُلغى من الكلام، والتأثيم مصدر أَثَّمْته أي قلت له أثمت.
محمد بن كعب: {وَلاَ تَأْثِيمًا} أي لا يؤثِّم بعضُهم بعضًا.
مجاهد: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا} شتمًا ولا مأثمًا.
{إِلاَّ قِيلًا سَلاَمًا سَلاَمًا} {قِيلًا} منصوب بـ: {يَسْمَعُونَ} أو استثناء منقطع أي لكن يقولون قِيلًا أو يسمعون.
و {سَلاَمًا سَلاَمًا} منصوبان بالقول؛ أي إلا أنهم يقولون الخير.
أو على المصدر أي إلا أن يقول بعضهم لبعض سلامًا.
أو يكون وصفًا لـ: {قيلا}، والسلام الثاني بدل من الأول، والمعنى إلا قيلًا يسلم فيه من اللغو.
ويجوز الرفع على تقدير سلام عليكم.
قال ابن عباس: أي يحيِّي بعضهم بعضًا.
وقيل: تحييهم الملائكة أو يحييهم ربهم عز وجل. اهـ.

.قال الألوسي:

{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ}.
حال أخرى أو استئناف أي يدور حولهم للخدمة {ولدان مُّخَلَّدُونَ} أي مبقون أبدًا على شكل الولدان وحد الوصافة لا يتحولون عن ذلك، وإلا فكل أهل الجنة مخلد لا يموت، وقال الفراء وابن جبير: مقرطون بخلدة وهي ضرب من الأقراط قيل: هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيآت فيعاقبوا عليها، وروى هذا أمير المؤمنين على كرم الله تعالى وجهه، وعن الحسن البصري واشتهر أنه عليه الصلاة والسلام قال: أولاد الكفار خدم أهل الجنة وذكر الطيبي أنه لم يصح بل صح ما يدفعه؛ أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة قالت: «توفي صبي فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة فقال صلى الله عليه وسلم: أو لا تدرين أن الله تعالى خلق الجنة وخلق النار فخلق لهذه أهلًا ولهذه أهلًا»، وفي رواية «خلقهم لهما وهم في أصلاب آبائهم».
وأخرج أبو داود عنها أنها قالت: «قلت: يا رسول الله ذراري المؤمنين فقال من آبائهم فقلت: يا رسول الله بلا عمل قال: الله أعلم بما كانوا عاملين قلت: يا رسول الله فذراري المشركين قال: من آبائهم فقلت: بلا عمل قال: الله أعلم بما كانوا عاملين»، وقيل: إنهم يمتحنون يوم القيامة فتخرج لهم نار ويؤمرون بالدخول فيها فمن دخلها وجدها بردًا وسلامًا وأدخل الجنة، ومن أبى أدخل النار مع سائر الكفار ويروون في ذلك أثرًا.
ومن الغريب ما قيل: إنهم بعد الإعادة يكونون ترابًا كالبهائم، وفي (الكشف) الأحاديث متعارضة في المسألة وكذلك المذاهب، والمسألة ظنية والعلم عند الله تعالى وهو عز وجل أعلم انتهى؛ والأكثر على دخولهم الجنة بفضل الله تعالى ومزيد رحمته تبارك وتعالى، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك.
{بِأَكْوَابٍ} بآنية لا عرا لها ولا خراطيم، والظاهر أنها الأقداح وبذلك فسرها عكرمة وهي جمع كوب {وَأَبَارِيقَ} جمع إبريق وهو إناء له خرطوم قيل: وعروة، وفي (البحر) أنه من أواني الخمر، وأنشد قول عدي بن زيد:
ودعوا بالصبوح يومًا فجاءت ** في قينة يمينها إبريق

وفيه أيضًا أنه إفعيل من البريق، وذكر غير واحد أنه معرب آب ريزاي صاب الماء وهو أنسب مما في بعض نسخ القاموس أنه معرب آب ري بلا زاي، وأيًا ما كان فهو ليس مأخوذ من البريق، نعم الإبريق بمعنى المرأة الحسنة البراقة والسيف البراق والقوس فيها تلاميع مأخوذ من ذلك، ولعله يقول بأنه عربي لا معرب، وأن البريق مما فيه من الخمر والشعراء يصفونها بذلك كقوله:
مشعشعة كأن الحص فيها ** إذا ما الماء خالطها سخينًا

أو لأنه غالبًا يتخذ مماله نوع برق كالبلور والفضة {وَكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ} أي خمر جارية من العيون كما قال ابن عباس وقتادة أي لم يعصر كخمر الدنيا، وقيل: خمر ظاهرة للعيون مرئية بها لأنها كذلك أهنأ، وأفرد الكأس على ما قيل لأنها لا تسمى كأسًا إلا إذا كانت مملوءة.
{لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أي بسببها وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها، والمراد أنهم لا يلحق رؤوسهم صداع لأجل خمار يحصل منها كما في خمور الدنيا، وقيل: لا يفرقون عنها بمعنى لا تقطع عنهم لذتهم بسبب من الأسباب كما تفرق أهل خمر الدنيا بأنواع من التفريق.
وقرأ مجاهد {لا يصدعون}، بفتح الياء وشد الصاد على أن أصله يتصدعون فأدغم التاء في الصاد أي لا يتفرقون كقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43]، وقرئ {لاَّ يُصَدَّعُونَ} بفتح الياء والتخفيف أي لا يصدع بعضهم بعضًا ولا يفرقونهم أي لا يجلس داخل منهم بين اثنين فيفرق بين المتقاربين فإنه سوء الأدب وليس من حسن العشرة {عَنْهَا يُنزَفُونَ} قال مجاهد، وقتادة والضحاك: لا تذهب عقولهم بسكرها من نزف الشارب كعنى إذا ذهب عقله، ويقال للسكران نزيف ومنزوف، قيل: وهو من نزف الماء نزحه من البئر شيئًا فشيئًا فكان الكلام على تقدير مضاف، وقرأ ابن أبي إسحاق، وعبد الله والسلمي، والجحدري، والأعمش وطلحة، وعيسى وعاصم كما أخرج عنه عبد بن حميد {وَلاَ يُنزِفُونَ} بضم الياء وكسر الزاي من أنزف الشارب إذا ذهب عقله أو شرابه، ومعناه صار ذا نزف؛ ونظيره أقشع السراب وقشعته الريح وحقيقته دخل في القسع، وقرأ ابن أبي إسحاق أيضًا {وَلاَ يُنزِفُونَ} بفتح الياء وكسر الزاي قال: في المجمع وهو محمول على أنه لا يفنى خمرهم، والتناسب بين الجملتين على ما سمعت فيهما أولا على قراءة الجمهور أن الأولى لبيان نفي الضرر عن الأجسام، والثانية لبيان نفي الضرر عن العقول وتأمل لتعرفه إن شاء الله تعالى على ما عدا ذلك.
{وفاكهة مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ} أي يأخذون خيره وأفضله والمراد مما يرضونه. {وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ} مما تميل نفوسهم إليه وترغب فيه، والظاهر أن فاكهة ولحم معطوفان على {أكواب} [الواقعة: 18] فتفيد الآية أن الولدان يطوفون بهما عليهم، واستشكل بأنه قد جاء في الآثار أن فاكهة الجنة وثمارها ينالها القائم والقاعد والنائم، وعن مجاهد أنها دانية من أربابها فيتناولونها متكئين فإذا اضطحعوا نزلت بإزاء أفواههم فيتناولونها مضطجعين، وأن الرجل من أهل الجنة يشتهي الطير من طيور الجنة فيقع في يده مقليًا نضجًا.
وقد أخرج هذا ابن أبي الدنيا عن أبي أمامة وأخرج عن ميمونة مرفوعًا «أن الرجل ليشتهي الطير في الجنة فيجيء مثل البختي حتى يقع على خوانه لم يصبه دخان ولم تمسه نار فيأكل منه حتى يشبع ثم يطير» إلى غير ذلك، وإذا كان الأمر كما ذكر استغنى عن طوافهم بالفاكهة واللحم، وأجيب بأن ذلك والله تعالى أعلم حالة الاجتماع والشرب، ويفعلون ذلك للإكرام ومزيد المحبة والتعظيم والاحترام، وهذا كما يناول أحد الجلساء على خوان الآخر بعض ما عليه من الفواكه ونحوها وإن كان ذلك قريبًا منه اعتناءًا بشأنه وإظهارًا لمحبته والاحتفال به، وجوز أن يكون العطف على {جنات النعيم} [الواقعة: 12] وهو من باب متقلدًا سيفًا ورمحًا أو من بابه المعروف، وتقديم الفاكهة على اللحم للإشارة إلى أنهم ليسوا بحالة تقتضي تقديم اللحم كما في الجائع فإن حاجته إلى اللحم أشد من حاجته إلى الفاكهة بل هم بحالة تقتضي تقديم الفاكهة واختيارها كما في الشبعان فإنه إلى الفاكهة أميل منه إلى اللحم، وجوز أن يكون ذلك لأن عادة أهل الدنيا لاسيما أهل الشرب منهم تقديم الفاكهة في الأكل وهو طبًا مستحسن لأنها ألطف وأسرع انحدارًا وأقل احتياجًا إلى المكث في المعدة للهضم، وقد ذكروا أن أحد أسباب الهيضة إدخال اللطيف من الطعام على الكثيف منه ولأن الفاكهة تحرك الشهوة للأكل واللحم يدفعها غالبًا.